وجهة نظر | الموت على فرو ناعم
مؤسسة القناة الإعلامية للبنت السورية
إعداد فريق قسم الأخبار في الموقع الرسمي 2015/03/23
##################################
منذ أول قذيفة ثورية سقطت في المدينة، قررنا أن غرفة ابنتي الصغيرة، في زاوية المنزل، هي الغرفة الأكثر أماناً، ذلك أنها تقع في أقصى جنوب البيت، بعيدة عن الشمال الذي تأتي منه الهدايا المميتة
ونافذتها الوحيدة محمية بجدار جارنا الذي انتهز فرصة التسيب، وبنى طابقا كاملا، أغلق علينا الهواء القليل، لكنه أيضا حمى الجهة الجنوبية للبيت. للفوضى حسناتها أيضا
والغرفة هذه بألوانها المتعددة كما يليق بطفلة، بدباديبها وأرانبها وباربياتها، تمثل أفضل مكان للموت. ماذا أطلب أكثر من موت على فرو ناعم؟
وضعنا التعليمات التي اتفقنا عليها بوجوب الهروب الى الغرفة المحصّنة كما سميناها عند الشعور بأي خطر، إضافة إلى اقناع ابنتي الصغيرة ــ وهذا كان الأصعب ــ بأن أمها هي المسؤولة عنها اذا حصل شيء. لا أظن أني الوحيد الذي كتب وصية أو عبّر عنها شفهياً على الأقل، ذلك أن موتا صغيرا غامضا ومفاجئاً ينتظر كل سوري
كنت مصرّاً على عدم وهب أحذيتي التي جمعتها بكثير من العناية لأحد. الأحذية كائنات لطيفة، تفاعل رائحة الأقدام والجلد يصنع إلفة خاصة بي لا أرغب بإهدارها، لا أريد أن أمشي بأقدام أحد
تسمح لنا فترات التقنين الكهربائية بدوام لا يتجاوز الثلاث ساعات، بعدها نذهب إلى شؤوننا الشخصية بالأجر الذي تسمح به الثلاث ساعات. ثلاث ساعات من العمل القليل أصلاً لنستحق راتبنا الذي هو أقل
التقنين طاول ليس فقط قدرتنا على تدبر شؤون حياتنا بل أيضا مقدرتنا على التنفس دون ألم، كأنه تقنين هوائي أيضاً. عمل أقل يساوي أجراً أقل، يساوي كحولاً أكثر، ومشادات عائلية أكبر. تقنين ثلاثي، الثلاثة رقم مقدس في الكثير من الديانات والمذاهب، عند المسيحيين وعند العلويين أيضا، ربما لهذا اعتمدته الدولة، يجعلنا أكثر قدرة على التحمّل وعدم الاعتراض، ويقولون ان الدولة لا تحابي الأقليات
صرنا نرتب حياتنا ثلاثا ثلاثا، نعطي المواعيد الخارجية في ثلاث العتمة والمواعيد الداخلية في ثلاث الضوء، نذهب إلى العزاء في ثلاث مغايرة عن ثلاث التهنئة، يجب أن أرتب موتي في ثلاث مناسبة، من هو الأحمق الذي سيغادر بيتاً فيه كهرباء ليقدم تعازيه؟
بدأنا مشاريع التقشف التي تتناسب مع انحدارنا الى مصاف الفقراء، تخلينا عن برجوازيتنا الصغيرة التي بدأت مع الانتهاء من سداد أقساط المنزل، تخلينا عن نعمنا الصغيرة، مباهجنا التافهة التي كانت تجعل الحياة أسهل. بدأنا بتبديل نوعية التبغ الذي نستخدمه، زوجتي باتجاه نوعية رخيصة لكنها أنيقة، وأنا باتجاه التبغ البلدي الذي تصنع رائحته مزيجاً من الاختناق والازعاج. ثم النسكافيه، مشروبنا الأثير، استبدلناه بنوعية هندية بربع السعر والطعم، ثم مبيض القهوة الذي استبدلناه بدوره بنوع سعودي بادئ الأمر، ومن ثم بنوع أرجنتيني أرخص. عندما أجلس صباحا لأتناول قهوتي مع سيجارتي الأولى غالبا ما أتساءل ماذا أشرب فعلا بحق الجحيم؟ ثم يقودني الأمر لأفكر إن كانت هذه حياتي فعلا أم أنها حياة مستبدلة بنوعية أرخص؟
استبدلنا كلّ شيء بشيء أرخص، ولم يتأخر التجار عن موافاتنا بالبدائل: لحم جواميس هندي يأتي طافحاً بالشحوم الثلاثية والكوليسترول وو.. والجراثيم أيضا؛ سكّر بلا منشأ تحتاج إلى ضعف الكمية المعتادة منه لتحلية كأس شاي؛ بنزين خفيف، لا أعلم من أي بئر غبية أتى، تسير به السيارات نصف المسافة، ملابس صينية تختلف قياساتها عن قياساتنا، إذ يحتاج الشخص المتوسط الحجم إلى قياس XXL. أحذية مستعملة، ألبسة داخلية مستعملة، هواء مستعمل، لكن لا كرسي ليقعد فيه الرجل، معلبات مجهولة المصدر، بضائع في أغلبها مجهولة المصدر، وحده الموت يأتي واضحاً، بمصدر موثوق به وبشهادة منشأ موثقة
أنظر إلى ابنتي النائمة بوداعة وأخاف أن يجري استبدالي، والحال كذلك، بأب أرخص، قليل الصراخ والطلبات
في الفترات التي يسمح لنا بها المتحاربون بالهدوء والكفّ عن التفكير في الموت الآتي، أنصرف الى قصائدي القليلة التي كتبتها في الفترة الماضية. أزيد عليها بقع دم وجثامين، جنازير ومدرعات وعربات محطمة. شيئا فشيئا تتحول القصائد إلى بيانات غاضبة، أو إلى مراثٍ حزينة. كل يوم أكتشف مفردة دامية أخرى أحشرها في القصيدة. شيئا فشيئاً تتحول أغصان الزيتون والفراشات والأزهار العطرة إلى جثث متعفنة وجماجم مفتتة وأقفاص صدرية مخسوفة، إلى بيوت بلا سطوح وشوارع رمادية. أرغب في أن أقول لزوجتي أحبكِ، فتخرج الكلمة على شكل نصل دامٍ. أرغب بتقبيل ابنتي فيبقبق الدم من شفتيّ
نمارس حياتنا بربع الحواس المطلوبة. عين على الشريط الإخباري وعين على المصباح، أذن مع الضجة المخيفة في مكان وقوع القذيفة، وأذن مع المذيعات المتجمّلات، يد على جهاز التحكم ويد على كوب القهوة الباردة
نسرق قبلات مختنقة، عناقا سريعا يشبه عناقات اللصوص المطاردين، ممارسة خائفة سريعة. دقائق وينتهي كل شيء، في آخر مرة سقطت فيها القذيفة في الشارع المجاور قبل الانتهاء بدقيقة، كان الصوت مخيفاً لدرجة أني أيضاً تقلصت إلى ربع حجمي العادي، اعتذرت عن فشلي وانتحيت ركنا أدخن فيه
الحرب لا تدعني أنهي ممارسة الحب بطريقة لائقة
مؤسسة القناة الإعلامية للبنت السورية
قسم الأخبار في الموقع الرسمي 2015/03/23